recent
أخبار ساخنة

فُتنَة ” رواية لـ”أميرة بهي الدين” الجزء الأول

أميرة بهي الدين

أميرة بهي الدين

فُتنَة


الموتى لا يكتبون الروايات




(البداية) 

فُتنَة .. أيوة أنا باشتغل ..  
هكذا تقول عن نفسها دائمًا، أنا عاهرة، أو فتاة ليل، أو .... طبعًا تعرفون ما أقصد، وليس ثمة داعٍ لجرح أدبكم بالألفاظ المنحطّة التي يصِفني الناس بها ... 
نعم، فُتنَة تصِف نفسها بذات الألفاظ التي يصِفها الناس بها، وكأنهم يسبّونها ويهينونها، تصِف نفسها بها بلا خجلٍ منهم ولا مِن نفسها، نعم هي لا تخجل من نفسها، ولا تخجل من وظيفتها، ولِمَ تخجل؟ هي تعتبر الأمر كله مجرد عمل أو وظيفة، مثل أي عمل آخر أو وظيفة أخرى، إذا قال عنها الآخرون إنها عاهرة فإنها لا تغضب، وكثيرًا ما سألوها لماذا لا تغضبين؟! وقتَها تردّ ببساطةٍ وسهولة قائلة، ولماذا أغضب؟ هذا عملي، ولا يوجد ما يبرر الغضب. إنهم يقولون الواقع والحقيقة .. هكذا تقول لنفسها وللجميع ..

كونها تعمل فتاة ليل أو عاهرة، لا يعني مِن وجهة نظرها أنها بلا أخلاق أو أنها وضيعة، كما سَبّها أحد الرجال بذلك الوصف يومًا فضرَبته بالشبشب على رأسه وفَضحته، و"خلّت اللي ما يشتري يتفرج "لأنه أهانها بلا مبرر.. نعم أنا عاهرة، هكذا تقول، لكني لست وضيعة أو منحطّة، أو منفلِتة أو قذرة أو غيرها من تلك الألفاظ التي يعتبرها الآخرون مرتبطة ارتباطًا ضروريًا بعملي ومِن مقتضيات القيام به.  

كونها عاهرة لا يعني أنها "قليلة الأدب"، أو "بلا أخلاق"، بالعكس، هي ترى نفسها في منتهى الأدب، ومنتهى الأخلاق، فهي لا تسرق، ولا تكذب، ولا تنافق، وتقول للأعور أنت أعور في عينه، بشجاعةٍ وثقة، بل هي "جدعة" مع الناس كلها، "واسألوهم عني وعن جدعتني شوفوا حيقولوا ايه؟"  

"طبعا جدعة"، هكذا تصف نفسها، فهي تقف بجوار المحتاج وتفك ضيقه المخنوق، وتراعي الغلبان ولا تستقوي عليه، ولا تكسر بنفسه ولا خاطره، جدعة، تجامل جيرانها وأصدقاءها قدْر ما تقوى، وبكل ما في جيبها وأكثر، وبكل ما في قلبها من حبٍ وأشد، تجامل جيرانها وأصدقاءها بكل إخلاصٍ وصدق ومحبة، تُصوِّت وتعدِّد في المآتم، وتزغرد في الأفراح، وتلم الجمعيات، وتمنح اسمَها الأول للأكثر احتياجًا قبل أن يَطلب أو يَكشف وجهه احتياجًا وعوزًا.. 

إذا صادفْتَها وقت عملها، ستجدها امرأة شهية مغرية، تجيد صنْعَتها وتملك كل أدواتها، ترتدي من الملابس ما يُظهِر مفاتنها ويثير لعابَ الرجال ويفرغ جيوبهم في حقيبتها. شَعرٌ مصفف زاهٍ، ومكياج أنيق مثير، وحذاء يؤرجح جسدَها البض على إيقاع خطواته، وإذا رأيتَها مطِلة من نافذة شقتها وقت الراحة تنظر للشارع المزدحم قبل المغرب، لا يمكن أن تصدق أن تلك الصبية المليحة ذات الخدود الوردية والابتسامة الطفولية، هي ذاتها تلك المثيرة اللعوب التي تجلس على منضدةٍ صغيرة في أشهر الملاهي الليلية الكبيرة، تشاغِل زبائنها المحتمَلين، وتنتظر صيدَها الثمين وما يلقيه لها القدر والنصيب، ورزق ربنا .. 

إذا قابلتَها واطمأنت لك وجلستْ معك براحتها، وسألتَها بفضول تفهمه عن حكايتها، فلن تحكي لك قصصًا وهمية مبتذلة كاذبة كالتي قد تسمعها من غيرها من العاهرات عن قدرِها ونصيبها وحظها الأسود، لن تقول لك زوج أمّي اغتصبني، ولا سيد البيت الذي كنت أعمل فيه خادمة تَحرّش بي فهربت خوفًا منه، فاصطادني رجل سافل فضّ عُذريتي، فأصبح الشارع مِن أمامي والضياع من خلفي، لن تقول لك إنها تاهت من أسرتها صغيرةً وسط زحام المولد، وعَثرت عليها سيدة كانت تبدو طيبة، ثم اكتشفت أنها قوّادة تسرّح الفتيات، فأجبرَتها على الطريق الأغبر وما عاشته فيه، لن تقول لك إنها أحبّت شابًا مجرمًا من حيِّها الفقير، هربت معه من بيت أسرتها بعدما أغواها بالحب ومنحته أعز ما تملك باسم الحب وأحلام الزواج، لكنه نذلٌ فرّ منها وتركها لمصيرها فخافت أن تعود لأهلها، وسارت في ذلك الطريق الصعب مجبرة، وأنها تتمنى التوبة والزواج والستر، لن تقول لك أي واحدة من تلك القصص الكاذبة، ولن تبكي بين يديك تستجلب تعاطفك وحزنك على مصيرها الذي تعيشه، لن تخدعك فُتنَة، ولن تكذب عليك ما دامت اطمأنت لك وجلست تحتسي شايها معك، ستخبرك عن حقيقتها بكل فُجرٍ وبجاحةٍ صادمة، ستقول غير مكترثةٍ برأيك ولا فزعك، إنها اختارت العهرَ وظيفةً وعملا بكامل إرادتها؛ سعيًا لمالٍ كثير، تعلمت من الدنيا أنها لن يكون لها قيمة، لا هي ولا غيرها، إلا به، ستقول لك هذا الكلام وهي تعرف أنك سترفع حاجبيك دهشة، وأن الصدمة ستلجم لسانَك، وتنشّف ريقك، فلا تجد كلماتٍ مناسبة تردّ عليها بها، ستقول لك هذا الكلام وهي تعرف أنك كنت تتمنى منها وعنها قصة كاذبة تسمح لك بالتعاطف معها والحزنِ على مصيرها ورضاء ضميرك عنها؛ لأنها أُجبِرت على ذلك الطريق، تعرف أن كلامها سيعرّيك أمام نفسك، عليك أن تكرهها وتحتقرها، وربما تسبّها وتضربها؛ لأنها ساقطةٌ باختيارها، كنتَ تتمنى أن تمنحك فُتنَة تكئة تبرّر بها سماعك حكايتها لآخرها دون غضبٍ أو ثورة، كنتَ تتمنى أن تخبرك أنها مجرد مفعول به بلا إرادةٍ ولا اختيار، هوت لطريق سقوطها رغم أنفها، نعم .. وقتَها لن تحترمها، لكنك لن تكرهها ولن تغضب منها، بل ستلتمس لها ألف عذرٍ يبرر سقوطها،  لكن فُتنَة، لن تمنحك ذلك العذر الواهي الذي تبحث عنه وتتمناه منها، لن تمنحك مبررًا للتعاطف معها، ولن تبرر انحرافها، ولن تستدِر الأسي عليها، بل ستصدمك صدمة قوية بتكبّرها وإصرارها على أنها فاعلٌ اتخذ قرارًا جريئًا بكامل إرادتها ووعيها، نعم.. هي اختارت العهر وبيعَ الجسد وظيفةً وعملا، يسمحان لها بالتحليق المستحيل على كل الدرجات الاجتماعية واجتيازها وتجاوزها، وهي التي كان يستحيل عليها وفقًا لحياتها القدَرية ولأبيها وأمّها وحيّها الفقير إلا أن تبقَى مقهورة فقيرة محتاجة، كسيرةَ النفس والقلب، مثل كل حيِّها وأهله، فما هو الذي سيفلح أبوها البائع السرّيح الذي يعمل يومًا وينام عشرة في منحِه لها، هي أو أيًا من أخواتها الكثيرات؟ وما الذي كانت ستقوَى عليه أمّها الغضبَى قليلة الحيلة، زوجة البائع السرّيح النائم الذي لا ينفِق عليها ولا على أولادها أن تقدّمه لها إلا الضرب الأحمق المجنون لها ولكل أخواتها تنفّس عن غضبها من زوجها وفقرها والحياة السوداء التي تعيشها، ما الذي يملكه أبٌ مثل أبيها، أو أمٌّ مثل أمها ليقدّماه لها، إلا مصيرًا أسود فرت منه بإرادتها لطريق أسود يريحها ويقرّب البعيد من يدها، حتي لو كان لا يعجبكم ولا يحظى باحترامكم ويثير غضبَكم ..

نعم.. أدركت فُتنَة منذ بداية وعيها بالحياة التي تعيشها وتفاصيلها الموحشة، أدركت أن تلك الحياة لن تمنحها أي شيء تحلم به أو تتمناه، ستتعلم في المدارس الحكومية الفاشلة، وتتخرج فيها لا تقرأ ولا تكتب، ولا تصلح لأي وظيفةٍ تمنح احترامًا وراتبًا عاليًا، وأحلامًا ممكنة، ستتزوج رجلا مثل أبيها، حشاشًا مثله، وأكثر منه كسلا،  لن يعمل، وسيقضي وقته نائمًا خدِرًا ويتركها تبحث عن طعامه وطعام أطفاله، ستخرج تخدم في البيوت مثلها مثل أمّها، وتحضر لأطفالها الضائعين في الشارع بقايا الأكل قبل أن تقذف به مخدومتها للكلاب والقطط الضالة، أدركت فُتنَة مبكرًا أنها ستدخل الدنيا وتخرج منها خاليةَ اليدين، مقهورةً بلا سند ولا قوة، ولا أحلام ولا حياة جميلة يتمناها الجميع وتتمناها مثلهم، أدركت هذا وكرِهته ورفضت الانصياع لبطشه، وقررت أن تتحدى القدر والمصير والمكتوب على الجبين، وتفِر من قاع الحياة الموحِش الذليل لقاعٍ آخر يحقق أحلامها، ومن قاعٍ لقاع يا قلبي لا تحزن، قررت أن تحترف العهر وظيفةً وعملا لا يحتاجان منها مجهودًا ولا شهادة ولا واسطة، فقط عليها أن تعرِض نفسها عرضًا جيدًا في تلك السوق، واثقة أنها ستلاقي رواجًا وقبولا يغيّر حياتها ويحلق بها صوب السماوات التي تحلم بالتحليق في براحها بعيدًا عن عطن قاع الحي الفقير، وضربِ أمّها، ونوم أبيها ..

هل هي أكثر العاهرات عهرًا؟ سؤال سألته كثيرًا لنفسها ولم تعثر أبدًا على إجابته، أثار السؤال اللحوح أسئلة أكثر أرهقت رأسها وعقلَها المتعَب، وهل يصنّف العهر على درجات مختلفة من الانحطاط؟! مَن هي العاهر الأقل عهرًا؟ ومَن هي المومس الأكثر عهرًا؟ هل التي أُجبِرت على ذلك العمل وقُهِرت عليه هي الأقل عهرًا؛ لأنها أُجبِرت عليه بلا إرادة مفعول به لا يملك رفضًا ولا فرارًا؟ ومَن اختارته طواعيةً وبإرادتها وقرارها هي الأكثر عهرًا لأنها قررت أن تسقط في مستنقعات الرزيلة باختيارها وكيفِها؟ تَسخر فُتنَة من السؤال، وتتجاهل إجابته في عيون الكثيرين ممن يرونها الأكثر عهرًا والأكثر انحطاطًا، تتجاهل ما تراه في عيونهم وتتجاهلهم، لا توافقهم على أنها منحطّة أصلا، هي تمارس عملها وفقًا لقواعده المتعارَف عليها، تمنح عميلها بعض الوقت يمارس عبثه على جسدها، تمنحه بعض السعادة، ويمنحها الأجر المتفَق عليه، وفي النهاية وبعدما ينتهي وقت العمل تعود لحياتها بعد أن تغتسل وتغيّر ملابسها، وتمسح المكياج من على وجهها، وترتدي جلبابها المنزلي المريح، وتجلس بجوار الراديو تسمع عبد الحليم، وتقزقز الِّلب في الشبّاك وقت المغربية .. 

هي عاهرة، نعم .. لكنها إنسان، إنسان ليس منحطًا كما يصِفها الأغبياء، إنسان لها مشاعر وقلب، وأحاسيس مرهفة، ودموع قريبة، إنسان تتأثر بكلمات أغاني عبد الحليم حافظ وحزنها، وتبكي مع فيلم منى وأحمد، وتدعو لهما بالفرحة والحب، وتلاعِب الأطفال في الشارع، وتبتسم لهم من قلبها، وتتمنى لو كانوا أطفالها وكانت أمّهم الحانية، إنسان تحِب البطيخ في الصيف مع الجبنة الحادقة، وتحِب لِب البطيخ الذي تقليه على الصفيحة فتفوح رائحته تسعدها وتذكّرها بومضات فرحةٍ عاشتها في حضن أمّها وهي صغيرة، قبل أن يأتي الفقر والقهر أثرَهما في حنانها وتوحشّها، إنسان تحِب المراجيح وتحلم بالتحليق فيها صوب السماء نهارَ العيد بثوبٍ جديد وحذاءٍ لامع، إنسان تحلم مثل كل الفتيات في سِنها برجلٍ يحبها ويدلّعها ويهنّيها ويشتري لها عقد فل، ويرسل لها خطابًا غراميًا يبثها فيه حبه وغرامه بها وهي أجمل فتاةٍ في الدنيا وقعت عينه عليها، إنسان تحلم بالكوشة والزفة والفستان الأبيض، والعريس الذي سيخطفها على حصانه الأبيض، هي عاهرة فعلاً، لكنها إنسان تضحك على النكتة الساذجة، وتبكي وقت أن يسقط ابن جارتها في امتحان الإعدادية، عاهرة لكنها إنسان تحِب أن تخرط الملوخية، وتشهق وقتما تلقي عليها طشة التوم، تحِب أكل الفتّة يوم العيد وتوزع منها على بيوت أحبابها بعد صلاة العيد، وتنتظر العيدية التي ستمنحها لها جارتها العجوز الطيبة، وإنْ لم تفعل لأي سبب، تبكي فُتنَة كالصغار، وتفقد بهجةَ العيد ومتعته، وتذهب لعملها كسيرةَ النفس معتلّة المزاج..

حين قررت فُتنَة مصيرها، واختارت طريقها، وعرَفت وظيفتها، وحددت شكل مستقبلها القريب، فرّت من بيت أبيها للشارع، فرّت لأنها أدركت استحالة تنفيذ اختيارها وسط تلك الظروف الضاغطة التي تعيشها في بيت أبيها وحيِّها الشعبي الفقير، في حجرةٍ واحدة يتكدس أبوها وأمّها وأخواتها الكثيرات محاطات بجيران فضوليين لا يتركونها، ولن يتركوها في حالها في الخروج والدخول، ويحرضون عليها أمّها المجنونة لتنهال عليها هي وأخواتها ضربًا وسط الصراخ واللطم والغضب الذي تقتاته وهي تسبّ زوجها وحياتها الكريهة وأولادها الملاعين. أمّها ستحاصرها في الخروج نهارًا، وتمنعها من الخروج ليلا، فتفسد أحلامَها الوظيفية، وتحاصرها في عهرٍ نهاري رخيص لن يمنحها أقل ما تحلم به مع زبون يبحث عن متعةٍ سريعة في وقتٍ قصير؛ ليعود بها لعمله الذي زوّغ منه أو محاضرته التي عليه حضورها، أمّها.. والبيت الضيق.. والحي الفقير.. والحمّام المشترك.. والزبون الفقير المتعجل.. كل ذلك سيبدد صحتها، وسيفسد مزاجها، وسيحطم أحلامها على صخرة الواقع اللعين، لا بدّ من الفرار، ولا بديل عنه..

وهكذا فرّت فُتنَة من بيت أبيها، خرجت ولم تعد، اختفت وكأن الأرض انشقّت وابتلعتها. في البداية صوّتت أمّها صوتيْن غضبًا وحزنًا، ثم نسيتها وسط مشاكل أولادها، في البداية زَمجر أبوها وقرر أن يبحث عنها ويقتلها وويتخلص من عارها، ثم دخّن سيجارتَي حشيش فنسي حكايتها وموضوعها، ونسيها أصلا، وقرر في لحظه صفاء، هو وأمّها ان يروّجا في الحيّ أنها تزوجت وسافرت مع زوجها؛ حرصًا على سُمعتِهم وشكلهم وسط الحي، وهكذا ببساطةٍ وبسهولة أوجدا لها مبررًا لتختفي من ذاكرة الجيران والحي وجلسات النميمة ومشاوير السوق .. 

فرّت فُتنَة من بيت أبيها واستأجرت، في حي شعبي بعيد، شقةً صغيرة، غرفة وصالة وحمّام ومطبخ، شقة في حي شعبي، هذا مطلبها، ستقول أمام جيرانها الجدد إنها راقصة في فِرقة رقص شعبي، سينتقدها الجيران نعم، لكنهم سيعتادون على غيابها الليلي ونومها النهاري، في البداية سينتقدونها ثم ينسونها، ويَقبلون عيشها وسطهم ومعهم، وربما تجد سيدةً طيبة من جيرانها تدافع عنها وعن رقصها باعتبار أن الحياة صعبة، والرقص أحسن من الانحراف، فيوافقها الناس قليلو الحيلة ويصمتون عنها وعن سهرها طوال الليل، بل وستجد مِن جيرانها مَن يشكّ فيها ولا يصدق أنها مجرد راقصة، لكنه سرعان  ما سيستغفر ربّه ويصمت، ويبقِي شكوكه داخل نفسه،  بل وينساها أيضًا  ..

فِعلاً ..... أجّرت فُتنَة شقة غرفة وصالة في حي شعبي، وخلال أسبوع تعرّفت على الجارات، وقَصّت عليهن حكايتها، وأن أمّها ماتت، وأنها تعمل راقصة في فِرقة رقص شعبي. 

وانتشر الكلام والصخب، ولاحظت نظراتِ الاستنكار في عيون الكثيرين.. وسرعان ما انشغلوا بمباريات الكرة ولعبِ الطاولة وارتفاع سعر البانجو، ودخول المدارس وارتفاع سعر الكهرباء، ونسيها الجميع، وعاشت بينهم، وما تزال، تخرج ليلا وترجع فَجرًا، لكنها أبدًا لا تخرج بملابسَ خليعة، ولا تعود بها، لها مَحطة في مكانٍ بعيد عن الحي، تصل إليها قبل البداية، فترتدي ملابس العمل، وتبعثر شَعرها، وتلوّن وجهها بالمكياج، وتعود إليها في النهاية تتحمّم وترتدي ملابسها العادية، وتعقف شَعرها ذيل حصان، وتعود للحي منهَكةً شاحبة متعَبة، مِن الحفلة التي طالت ورقصت فيها حتى انكسر ظهْرها. 

"والله يكون في عونك يا بنتي، أكل العيش مُر!" 

هي وظيفةٌ سهلة جدًا، هكذا قررت فُتنَة تيسيرًا للأمر كله على نفسها، لكنها تحتاج دأبًا وشجاعة وإخلاصًا ... هكذا قررت فُتنَة، وأقنعت نفسها، وأخلصت لعملها فنجحت فيه، وحققت جزءًا من أحلامها، وتسعى لتحقيق بقيتها، حين تَدخل الملهَى الليلي وتجلس على إحدى موائده وحيدة، توزع نظراتِها بطريقةٍ موحية، لكنها أنيقة، يستقبل كل الزبائن إشاراتِها، يتقدم صوبها أحدهم، يتحدثان بمنتهى الجديّة، يتفقان على السعر والوقت والطريقة والمكان، كل هذا تتحدث فيه بصرامةٍ وجديّة لا تتفقان وفستانها الخليع، وعينيها الجريئتين، وصدرها الشهي، وحين يتفقان على الصفقة وشروطها، وتقبض الدفعة المقدّمة، وتأمن لقوت غدِها، في تلك اللحظة تبدأ العملَ بإخلاصٍ وثقة، وعطاءٍ فيّاض، تبدأ في الضحك والميوعة والحركات الموحية، فإذا مَل الزبون من الجلسة والرقص والسكْر، وقرر أن يقوم بها ليستكمل ليلتَه السعيدة، ويحصل علة بقية حقه منها، لا تتحرك معه ولا تغادر مقعدها حتى تأخذ بقية حسابها المتفَق عليه، لا تطمئن لوعوده، لا هو ولا غيره، "ولاد الحرام ما سابوش لولاد الحلال حاجة"، وحين تدسّ المال في حقيبتها وتطمئن على إيجار البيت، وقِسط السجادة، وبقية قيمة الجمعية، وقتَها تبدأ وصْلتَها الثانية مع الزبون ، تشبك ذراعها في ذراعه، وتسمح له أن يمرر يده فوق وسطها، وربما فوق أجزاء أخرى من جسدها، ويتحركان صوبَ مكانه، وهناك تتحمّم وتتجمل، وترتدي ملابس داخلية أنيقة مثيرة، هي تمارس عملها بمنتهى الجديّة والإخلاص، تراعي الزبون الذي دَفع ثمن متعته، ويتعين عليها إمتاعه ومنحَه السعادة قدْر ما تقوَى، وقدْر ما يحلم، لن تلقي إليه بجسدها مثل المَرتبة، ولن تتركه يبحث عن سعادةٍ لا تمنحها له، هي لا تَكره عملها ولا تتقزز منه، هو عمل مثل أي عمل، عليها إجادته حتى تفلح فيه وتقترب من تحقيق أحلامها ..

إذا سألتَها عن أحلامها، ستقول لك إنها تتمنى أن تعيش مثل كل الناس، لا تخدم في البيوت، ولا تلبس ملابس رثة، ولا يضربها أبوها الحشّاش دون سبب، ولا تسبّها أمّها بأقذع الألفاظ وتفضحها في الشارع بلا سبب، ولا تنام في نفس الحجرة التي ينام فيها أخواتها تحت السرير، وأبوها وأمّها فوق السرير، تلك الحجرة التي بلا هواء، والمليئة بالصخب الليلي الموحي بكافة أشكاله، هي تتمنى أن تعيش مثل كل الناس، أن يكون لها شقة مريحة، جميلة وواسعة، ربما بها شرفة تجلس فيها وقت الغروب تتذكر فيلم "بين الأطلال"، بها حمّام لا يَفتح بابَه أي جارٍ يعيش معهم في نفس البلوك بسذاجةٍ مفتعَلة كأنه لا يقصد، تتمنى أن تلبس حذاء بكعبٍ عالٍ، وفستانًا أنيقًا، وتقود سياره مثل كل الفتيات التي تمتليء بهم شوارع المدينة، وتمنح المنادي الذي سيأخذ السيارة ليركنها عشرة جنيهات دفعة واحدة. أحلامها بسيطة ومشروعة، لكنها مستحيلة في حياتها هي، نعم.. تلك الحياة متاحة للكثيرات غيرها بلا ثمنٍ باهظ مثل الذي تدفعه كل ليلة،  لكنها بالنسبة لها حياة مستحيلة إلا إذا بذلت مجهودًا كبيرًا في ذلك العمل. أحلامها بسيطة، لكنها لا تَقبل التخلي عنها، ولا تقبل الرضوخ للحياة المُهينة التي فرضت عليها ظروفها مثلما فرض عليها الأب الحشّاش والأمّ المجنونة، لا تَقبل المنطق الذي تسمعه طيلة الوقت بأنها وأهلها وجيرانها وكل معارفها شيء، والناس الآخرون شيء آخر، هي لا ترى نفسها شيئًا آخر، هي ترى نفسها تشبِه كل تلك الفتيات، وربما هي أجمل، هي أذكى منهن، تستحق مستقبلا أفضل، لكن ظروف حياتها تفرض عليها مثل الجميع نسيان المستقبل 

"طيّب حاعيش ليه؟" 
هكذا سألت نفسها ..
"اتجوّز واخلّف، واخدم في البيوت، واضرب العيال واموت، طيّب أموت دلوقتي أحسن". 

هكذا قررت رفْض الحياة التي لا تستحقها، وصناعةَ حياةٍ أخرى مختلفة، حتى لو كان الثمن بيعَ الجسد، ضحكت مِن الفكرة، فمهما باعت الجسد فهو جسدها، لن يتلاشى، ولن ينتهي، نعم عمر عملِها قصير، فالعهر يحتاج الشباب والصحة والحيوية والتوهج، والشيخوخة تنفّر الأزواج، فما بال الزبائن والعملاء؟! لذا يلزم وبسرعة وخلال فترةٍ قصيرة، فترة شبابها وجمالها، أن تبذل مجهودًا كبيرًا في عملها، وأن تحقق أحلامها، وبعد أن يذهب الشباب وتفقد الجمال، ستتخلى عن عملها، وتستمتع بثمار صباها وشبابها وجسدها البض الجميل.

هي لا تقدس جسدها مثلما ينبغي عليها أن تفعل، لا تعتبره قدس الأقداس، لا تخجل منه، ولا تخجل من عملها، تبرر لنفسها ما تقوم به، عملٌ تستخدم فيه أفضل إمكانياتها، عملٌ سهل لا يحتاج رأس مالٍ ولا يحتاج تعليمًا خاصًا، عملٌ سهل، وقته قصير، وأجره كبير، هي أيضًا لا تعتبر عرْض جسدها للإمتاع شيئًا يمس كينونتها أو شرفها، هي لا تختصر الشرف في الجسد، فالجسد الذي تستخدمه في العمل ليس إلا وسيلة للتكسب، يغنِيها عن سؤال اللئيم، يكفيها شر الحاجة وانكسار النفس، ويمنعها من مد يدها للآخرين، ويقويها في مواجهة الزمن القاسي، ويمنحها من كنوز الحياة وخيراتها ما تستحقه، ولم تكن أبدًا لتناله إذا ما بقيت في بيت أبيها وحَصلت على شهادة التجارة، وعملت خادمة في منزل، أو بائعة في محل  صغير ..

في المرة الأولى التي نزلت فيها للملهى الليلي الذي احترفت الجلوسَ فيه، عرّتها كل العيون، حدّقت فيها كل الفتيات المنافسات، اقترب منها بلطجي تابع لصاحب الصالة، سألها عن هدفها من الجلوس، فتعالت عليه، وحين ألحّ طلبت منه أن تقابل صاحب الصالة، كانت جريئة ووقِحة ومباشِرة، لم تتلاعب بالألفاظ ولا بالكلمات، شرحت للرجل مالكِ المكان ومديرِه ما يبغي سماعَه، أنا ... وأبحث عن زبائن، ويمكننا التعاون، سآتي كل يوم، سأربّي زبونًا، سأجعل الزبون يصرف أكثر ما يقوَى عليه على منضدة محلك، حين أغادر معه المكان تكون قد أخذتَ حقك، ولا تقاسِمني أجري، إذا فشل التعاون بيننا سأرحل، وإذا نجح ستتركني براحتي ولك حقك ولي عَرَقي. اندهش الرجل من صراحتها وثقتها في كلامها، وكاد يبدأ أسطوانة المكان المحترم والعميل المحترم، تلك الأسطوانه التي يرددها على الأخريات وصولا لرفع نسبة ربحِه من تجارة الأجساد، لكنه لم يفعل، ووافقها وقَبِل عرضَها، وحين فعل مدّت يدها تسلّم عليه بمنتهى القوة وهي تبتسم.. 
"كلام رجالة".. 
نظر لها ولملابسها الخليعة، ونظراتها الوقحة الجريئة، وانفجر ضاحكًا 
"آه .. كلام رجالة" 
تَصافحا، وعادت للصالة لاصطياد زبونها الأول، وعاد هو لشؤونِه .. 



نبيل 


جالسًا على فراشِه، وأوراقُه مبعثرة حوله، يحدّق نبيل في الأوراق التي قضى يومَه كله يكتب فيه غاضبًا حانقًا ويكاد يمزقها، لا تعجبه الكلمات ولا المعاني ولا الشخصية التي خَلقها، ولا كل الهراء الذي قالته عن نفسها، وأسهَبت فيه وأطالت .. 

ساعات طويلة يكتب، نهار بحاله لم يغادر الفراش، محاطًا بأوراقه وأقلامه وأفكاره، وفي النهاية.. وبعد ساعات طويلة، وكالعادة، لا تعجبه كلماته ولا أفكاره ولا ما سَطَره .. 
حدّق نبيل في الأوراق غاضبًا يائسًا، للمرة المليون لا تعجبه الشخصية التي رَسمها، والتي تَصَورها ضالته التي سيكتب عنها روايتَه الجديدة، لا تعجبه فُتنَة.. 

"فُتنَة مين بنت الحرام دي؟"  
صوت غضبِه وإحباطه يدوّي في أذُنِه يلومه على جنونه وانحطاطه، وعلى الشخصية المقززة التي خَلَقها. 
"فُتنَة دي فجّه أكتر من اللازم، مباشره جدا، نمط غير واقعي في الحياة، حتضحّك القراء علينا" 
يهمس نبيل..  
العاهرات ضحايا بالضرورة، نعم ضحايا، يهوين جبرًا ويسقطن رغم إرادتهن، يلعنّ كل يوم القدرَ الظالم الذي ساقهن في ذلك الطريق، أمّا تلك العابثة التي اختارت وقررت فهي لا تعجبني ولا أصدقها، ولن أكتب عنها ..

يحسم نبيل أمره، لن يكمل كتابة حكاية فُتنَة، ولن تكون بطلة روايتِه الجديدة، غاضبًا من نفسه ومن فُتنَة، أضاعت وقته وجهده وإبداعه طوال اليوم.. "بنت حرام رسمي". قرر بحسم، أنه سيمزق الأوراق، ويكتب عن فُتنَة أخرى، بملامحَ وظروف مختلفة، عاهرة منكسرة، أجبرتها الظروف على الانحراف، تمارس الرذيلةَ وهي خجلَى ونادمة، تتمنى أن تتوب ولا تقوَى، تفكر في الموت ولا تملك شجاعة المنتحِرين. 
ابتسم نبيل.. 
"ايوه كده، ده طبيعي ومنطقي ومقبول، مش الست فُتنَة والمغربية ولب البطيخ وأغاني عبد الحليم" ..

قرر نبيل أنه سيمزق الأوراق ويتخلص من فُتنَة، سيغيّر الشخصية ويكتب عن العاهرة بطريقةٍ مختلفة، يطيل التحديق في أسطره، يبتسم ساخرًا مِن كل ما كتبه 

"وما لقتش غير المومس يعني تكتب عنها؟!" 
سيغيّر فكرته أساسًا، ربما يكتب رواية جديدة يحكي فيها عن بطلة جديدة لا تستفزه ولا تستفز القاريء مثل فُتنَة، ربما يجعل البطلة مدرّسة ألعاب في مَدرَسة ابتدائية، ربما يجعلها بائعة في محل زهور، ربما يجعلها عجوزًا تربّي أحفادها، لا هناك داعٍ لاستفزاز القرّاء بتلك الشخصية الفجة، الست فُتنَة بنت الحرام، وكأنها سمِعته وسط الأوراق، فهمست غضبَى تلومه "بتشتم أهلي ليه يا استاذ؟ انت مالك ومالهم؟ ما تخلّيك فينا أنا وانت بس!" 

وكأنه سمِعها تعاتبه، وكاد ينفجر فيها سبًا وضربًا، وفجأة انتبَه للحظة المجنونة التي يعيشها، يتشاجر مع شخصيةٍ كَتبها ولا تعجبه، انتبَه لنفسه، وخاف على عقله، قرر أن يمزق الأوراق بسرعة قبل أن يفقد أدبَه ووقاره مع الست فُتنَة بنت الحرام ..

 يحدّق نبيل في الأوراق المبعثرة حوله، حزين على نفسه، على ما أصابه من جدبٍ وخرَسٍ وصمت، حزين على ما ألمّ به، لا يعرف له سببًا ولا مبررًا، كان يكتب كثيرًا، كان ينشر كل شهر قصة قصيرة، في الأعوام الأخيرة نَشر خمس روايات، نعم.. بعض النقاد انتقد كتاباتِه، لكنه لا يكثرث بنقدهم، أكاديميون مغرورون، يتعالون على المبدعين أمثاله، أمّا معظم الكتّاب فقد أشادوا بموهبته ورواياته، وشخصياته المثيرة، وعوالمه الغريبة التي يكتب عنها، ويومًا بعد يوم صمت المنتقدون وكَثر المرحّبون، واشتهر اسمه، وصار له قراؤه، وسارت الحياة على أجمل ما تكون، فقط "رؤوف" ينغص عليه حياته، فقط "رؤوف" يعذبه عامدًا متعمدًا .. 

يفكر نبيل في حالِه، يتذكر أنه أصدر رواياتٍ كثيرة في  سنوات قليلة، ثم فجأة أصابه الجدب والخرس، قلمه كُسِر، يجلس كل يوم على مكتبِه وأمامه أوراقه، يكتب ويكتب، يقرأ ما كتبه، لن يعجب الناس، سيستفزّهم، النقاد لن يرحموني، يمزق أوراقه ويستحلب صمته وجدبه وينام؛ ليبدأ في اليوم التالي من جديد، ويصل للأسف لنفس النتيجة، يمزق أوراقه ووجهَه ..

ما يزال يفكر فيما يعيشه، يقِظًا كان أم نائمًا لا يكفّ عن التفكير ومحاولة الفهم، في البداية انزعج من عجزه عن الكتابة، ثم انتبه أنه أيضًا لم يقترب من النساء منذ شهورٍ طويلة، هذا هو سبب صمتِه، كلما ابتعد عن النساء عجزَ عن الإبداع، الكبت الجنسي الذي يحاصره، لا بدّ من النساء في حياته حتى تتدفق الأفكار، وتنفجر ينابيع الإبداع، ويجري الحبر في القلم، وتنسكب السطور الجميلة فوق الصفحات. هكذا قرر لنفسه، سيبحث عن امرأةٍ تحل مشاكله الجنسية والإبداعية، بعدها كل شيء سيكون تمامًا، يَسخر نبيل من نفسه ومن أفكاره، ومن أين سيأتي بالمرأة التي تعالج عجزَه الجنسي وخرسَه الإبداعي، وهو الذي نسي الحب منذ زمنٍ بعيد؟ نسي الحب وهجرَ النساء وعالمهن المتوهج، وانكفأ على نفسه يكتب ويفشل، يضحك ويضحك ساخرًا من سذاجته، مَن قال إن اعتلاء النساء لعلاج العجز الإبداعي يستوجب حبًا؟ إنها مجرد علاقةٍ تافهة عابرة، وربما مجرد ليلةٍ واحدة، أو حتى بضع ساعات، سينتقي امرأةً تعجِبه، يحِب المرأة الخمرية ذات الشَّعر الأسود المكتكت، مثل الخادمة التي اغتصبت القُبلة الأولى منه في بيت أبيه، وقت انفردت به في المطبخ، كان صبيًا في العاشرة، دخل المطبخ، وأمّه نائمة؛ ليبحث عن شيء يأكله، اصطادته تلك الخادمة اللعوب بسنوات عمرها الخمس عشرة، وبجسدها الفائر، تمايعت عليه فلم يفهم، اقتربت منه وألصقت جسدها الفائر بجسده الخامل الساذج، فأحَس ارتباكًا وأحاسيسَ أخرى لم يفهمها وقتَها، تَنفّست في أذُنِه، جَمد مكانه، ألصقت شفتيها على شفتيه، ثم مزقتهما، وسألته بعد أن فَرغت.. عجبتك؟ لم يردّ عليها، لا يعرف هل أعجبَته أم لا، لكنه يعرف أنه ما يزال مرتبكًا! 

منذ تلك اللحظة، والنساء الخمراوات ذوات الشعور السوداء المكتكته هنّ اللواتي يرقُن له، هن اللواتي يثِرنه، المرأة الخمرية ذات الشعر الأسود، رمز الإغواء، ويا ليتها تكون أنثي مِقدامة جريئة، هي التي تقتحمه، هي التي تدكّ حصون صمتِه وتجتاح قلاعه، وقتَها ينتفض فارسًا مغوارًا يغزوها ويقهرها وينتصر عليها ... ولكن النساء ابتعدن عنه، هو يعِد ولا يفي، هو يقترب ولا يقترب، هو يستغل أجسادهن ولا يمنحهن روحَه، النساء ابتعدن عنه، هو ينتظر اقتحامًا، وهنّ ينتظرن اقتحامًا، ولا أحد يقترب، ولا أحد يتقدم، فاحتل العجز روحَه، وضاعت موهبته وإبداعه وسط الكبت الذي يعيشه. سيبحث عن امرأةٍ تحل مشاكله، ربما لن تكون خمرية، ربما ستكون بيضاء شاحبة، هذا كله ليس مهمًا، فهذا ليس وقت المزاج والانتقاء والإعجاب، المهم الآن أن يعثر على امرأةٍ يفرغ فيها كبْته، ويقوم بعدَها ليكتب ويعالج عجزَه الإبداعي، ويسترد نفْسَه وقلمَه، تَذكّر فُتنَة، نعم.. هذا هو الاسم المثير الذي اختاره لعاهرته التي تستفزه جرأة اختياراتها 
"فُتنَة يا نبيل؟ أبوها الحشّاش سمّاها فُتنَة، وعايز الناس تصدقك لما تكتب عنها؟!" 

يهز رأسَه نفيًا 
"ولا حيصدقوني ولا حاكتب عنها" 
ويقرر أن يطوي الأوراق في درج مكتبِه قبل أن يمزقها مثل أوراق كثيرة استنفدت وقتَه وطاقته ومجهوده خلال العامين الأخيرين، وزادت خرسَه خرسًا! 


فُتنَة


"وست العرايس اسمها ايه؟"  
بميوعة وبراءة يأسران السائلَ تهمس، "اسمي فُتنَة".. 
وهكذا انتشر اسمها بسرعةٍ بين طالبي المتعة والباحثين عن السعادة والراحة، مخلِصة في عملها، ترضي زبائنها، تسعدهم، تعطيهم وقتًا طويلا، تشاكِسهم، لا تتعامل معهم باعتبارهم واجبًا ثقيلا وتجري .. 

وصارت رمزَ الإغواء والبهجة، يتهافت الزبائن على منضدتها في الملهَى الليلي، يجذبهم لها نظرتها الحانية، ابتسامتها البريئة، سطوع عينيها، الخجل الحقيقي الذي يلوّن وجنتيها بوردية مثيرة، يحومون حولها كالفراشات حول النار، تتفحصهم بذكاءٍ واهتمام، تنتقي منهم مَن هو أكثر احتياجًا لها، لا توافق على صحبة المتباهي بنفسه، ولا المعجَب بروحه، لا توافق على صحبة الثري الذي يتصور أنه سيشتريها بأمواله، لا توافق على صحبة رجلٍ تقطر عيناه احتقارًا لها، هو يحتاجها نعم، لكنه يحتقرها، لا توافق على صحبة مَن يتصور أنها رخيصة، هي ليست رخيصة، هي صاحبة عملٍ يسعِد الآخرين، وإذا كانت ستسعِد الآخرين فلن تَقبل أبدًا أن يضايقها الآخرون .. 

أدمَنها زبائنها، بعضهم لا يغادر الملهَى الليلي، ينتظر منها الرضا لتمنحه ليلة سعيدة مثل التي منحتها له من قبل، بعضهم لا يقترب منها ولا يشاغلها، لكنه يسعَد بالنظر إليها، والأنوثة الفيّاضة التي يفيض بها وجودها، بعضهم تَهوّر في لحظة نزقٍ وطلب منها الزواج، رَفضت بسرعة، الرجل في حضنها لا يعي ما يقوله، ولا يعي معنى كلماته ولا أثرها عليه ولا عليها .. "وبكره يفوق ويسمّم عيشتي!" 

فُتنَة.. الفتاة الخمرية ذات الشعر الأسود المتناثر حول رأسها هالاتٍ من الإغواء والإثارة والغموض، خصلات تسقط فوق جبهتها تزيد سحرَها سحرًا، تسقط ومعها حمّالة الفستان الأسود الستان الذي ترتديه دائمًا في لياليها الخاصة، تجلس أمام الرجل مبتسمةً سعيدة، كأنه حبيبها، عيناها تلمعان بسحر جذاب، صوتها الناعم، جسدها المخملي، خصلات فوق جبهتها، حمّالة الفستان تسقط على كتفها، وما إنْ ترفعها حتى تسقط مرة أخرى! 

فُتنَة... عاهرةٌ باختيارها، واثقة من النفس، لا تخجل ولا ترتبِك، تعتبر جسدها أداة متعةٍ لعملائها، تمنحهم أكثر مما يحلمون به، تعالجهم نفسيًا، تمنحهم إحساسًا بالسعادة، بالثقة، بالبهجة. لا تتعامل معهم أبدًا باعتبارها عاهرة تحترف المتعة، بل تتعامل معهم باعتبارها فتاة صغيرة فُضّت بكارتها للتوّ، بلا خبرة، فِطرية بريئة، تتعامل معهم مثلما تتعامل المُحِبة التي تنام لأول مرةٍ في حضن حبيبها، هذا تميزها وسِرها الصغير، تدهِش عملاءها ببراءتها، بانفعالاتها، بردود أفعالها، تدهِشهم بعطائها، لا اصطناع فيه ولا زيف، كأنها هي التي تتمتع بمشاعرهم، برجولتهم، بوجودهم .. 

هذا كله كَتبه نبيل في أوراقه التي كرِهها وقرر أن يتخلص منها ومِن فُتنَة، هذا كله كَتبه نبيل بتدفقٍ وانسيابيةٍ أدهشته هو شخصيًا، وهو يعاني العجزَ الجنسي والإبداعي ..


نبيل


قام المؤلف مِن على فراشه بعد أن قبض على أوراقه المبعثرة والتي استنزفت طاقاتِه طويلا، اقترب من مكتبِه الخشبي القديم الذي طالما جلس عليه لساعات يكتب في رواياته القديمة قبل العجز الإبداعي، طوى الأوراق بعنف وكأنه يخنقها هي وفُتنَة، ورماها بغضب في الدرج الأخير وسط أوراق كثيرة لم تعجبه، ومشاريعَ لم تكتمل، وأفكار مبعثرة استنفزت عقله طويلا. 

يحدّق في الأوراق مطويةً في قبضة يدِه، ويحكِم عليها إغلاق أصابعه أكثر وأكثر، ساخرًا من نفسه، غاضبًا من فُتنَة، الشخصية الغريبة التي استغرق وقتًا طويلا يكتب فيها وعنها وهي لا تصلح أبدًا بطلةً لروايتِه، يلوم نفسه لأنه اعتاد أن يبدأ في الكتابة ولا يعرف عن أي موضوع وبطل وحكايةٍ سيكتب ويحكي ..

يلوم نفسه لأنه سَمح لتلك الشخصية المنفلِتة أن تفرض نفسها على قلمِه وأفكاره، وبدّدت وقته وأزعجته، يَسخر منها ومن نفسه.. يا سعادة الكاتب الكبير إذا كانت بطلتك عاهرة باختيارها وإرادتها، فأي عالَم ستشيّده؟ وأي تفاصيلَ ستحكي عنها في روايتك الجديدة التي طال انتظارك لها؟! الليالي الحمراء؟ والملاهي الليلية؟ والعهر والغانيات؟! يضحك ويكاد يبكي، هل أغلقت كل الأبواب في وجهك حضرةَ الكاتب العظيم، حتى سَقط قلمك في المواخير والحديث عن الأجساد والرغبات والفحش والعاهرة الوقِحة ذات الإرادة والقرار الطوعي بالسقوط؟!

مَن الذي تسعى إليه ليقرأ روايتك الجديدة؟ قاريء منحَط مكبوت لا يبحث إلا عن كلماتٍ مثيرة وليالٍ حمراء؟ هل هذا هو القاريء الذي تبحث عنه يا سيادة الكاتب الكبير؟ 

انتفض نبيل غاضبًا من نفسه، يهز رأسه بعنف وكأنه يُسقِط الأفكار التي حاصرته بعيدًا عنه وعن أوراقه، هذه الفُتنَة لا تصلح بطلة، ولا عالمها يصلح أن يكتب عنه، ولا روايته الجديدة ستكون هابطة ومنحَطة إلى هذا القدْر. يتشاجر نبيل مع نفسه ومع فُتنَة، اغتاظ من نفسه، ضرب الدرج الأخير في مكتبه بالقدَم، كأنه يضرب فُتنَة في رأسها، كأنه يسبّها ويهينها، غاضبٌ منها لأنها العاهرة التي قررت ممارسة العهر بإرادتها، وفي نفس الوقت فَرضت نفسها على حروفه وأوراقه، ضرب الدرج الأخير بقدمه وكأنه يسحق رأسها ووجودها، وأشعل سيجارة غاضبًا من كل ما يحدث .. 

"انسَ فُتنَة، وانسَ الموضوع كله".. يعود لفراشه ويلقي جسده عليه، "انسَ اليوم وكل ما حدث فيه"، يحاول أن يهديء نفسه ويقلل توترها، غدًا سيكون يومٌ جديد تكتب فيه شخصية جديدة، تمنحها اسمًا منطقيًا وسماتٍ واقعية، ستكون فِعلا فتاة عادية. هكذا قال لنفسه مهدئًا إياها، وأطفأ الأنوار وأغمض عينيه بقوة، وقرر أنه سينام نومًا عميقًا، وسرعان ما يحلم بالخادمة الخمرية والقُبلة التي مزقت شفتيه، يزداد الحلم سخونة، والخادمة ذات الخمسة عشر عامًا تتحول شابة، يراها تعتليه وتهمس في أذُنِه بكلماتها الخارجة .. ويقوم من النوم ضيقًا، يَكره الأحلام الساخنة، تريح بدنَه وترهق روحه، الكبت الذي كان يحتله انطفأت جذوته، لن يبحث بهِمة وحماس عن امرأةٍ لن يجدها ولن يكتب، المرأة هنا لا تهمه، كل ما يهمه الكتابة،  لكن الأفكار تستعصي عليه، والقلم لا يجد ما يكتبه، والقراء هؤلاء الملعونون، لم يفتقدوه، هو كما قال الناقد الكبير، لم يمنح القراء روحَه ليمنحوه حبهم،  لعنةُ الله على "رؤوف"، وعلى الجدب، وعلي الأحلام الساخنة، سينام الآن نومًا عميقًا، وغدًا يوم جديد، وتَخدّر ونام، وارتفع صوت شخيره وكأنه ينام نومًا مريحًا لا يعاني همًا ولا تلاحقه المشكلات...


فُتنَة


أخرجت فُتنَة جسدها وروحها من وسط الأوراق المطوية بصعوبة شديدة، المؤلف طوى الأوراق على عنقها، واعتقل جسدها بين السطور، وأحكم إغلاق الدرج على أنفاسها فاختنقت وكادت تموت وتتلاشى، نَفضت الأوراق بعيدًا عن روحها، وصارعت الفناء ترفضه وترفض إرادة المؤلف وقراره المتعسف معها بإلغائها وإهلاك وجودها، تستشعر غيظًا وغضبًا منه، لن تَقبل هذا المصير الظالم، لن تسمح له بقتلها وإزهاق روحها ومحو كينونتها من الوجود، لن تسمح له ..

تسحب جسدها بعيدًا عن جدران الورق الثقيلة، وتنفض الأسطر والأحرف المتراكمة على روحها، وتسعل الترابَ الثقيل الراكد في الدرج عن أنفاسها، وتستشعر تحديًا للمؤلف، لنبيل، قد يكون من حقه يخلق الشخصيات، لكنه ليس من حقه قتلها، قد يكون مِن حقه بناء حياه الآخرين، لكن ليس مِن حقه هدمها، قد يكون مِن حقه بعث الحياة في الشخصيات الوهمية، لكن ليس مِن حقه أبدًا محو وجودها، هذا ما قررته فُتنَة وهي تجاهد وسط الأوراق والأحرف تنقِذ نفسها وتتحدى المؤلف ..

أخرجت وجودها من وسط الأوراق المطوية الثقيلة، ودفعت الدرج المغلق بإحكام بكل قوتها، بجسدها كله، بذراعيها، بقدميها، تدفعه بعيدًا عن جسد المكتب لينفتح لها وتخرج منه وتفر من قسوة حكم إعدامها. 

الظلام دامسٌ حولها في الدرج، والهواء فاسدٌ وراكد وثقيل، تدفع الدرج بعيدًا عن جسد المكتب بقوة أشد وأكثر، تؤكد لنفسها أنها ستَخرج من الدرج، ستخرج من الدرج، لن تستكين لمصيرها القاسي الذي قرره لها المؤلف، هل يتصور نفسه خالقًا فِعلا، يحيي ويميت؟ هو لا يملك هذا، إنه لا يخلق أي شيء، إنّ الشخصياتِ التي يكتب عنها تخلق نفسها بنفسها، تخلق نفسها وتقذف بنفسها في طريقه، فيراها ويصِفها ويكتب عنها، إنه مجرد قلم يكتب ما يَذهب إليه ويثير أفكاره وإعجابه، مجرد قلم وأصابع وبضعة أحرفٍ مبعثرة، يصِف بها ويحكي عن الشخصيات التي ذهبت إليه وألهمته ليكتب عنها. تَسخر فُتنَة من نبيل وجبروته معها، وقررت بحسمٍ وقوة أنه لا يملك أن يقتلني، ولا أن يمحوني من الوجود، أُعجِبه أو لا أُعجِبه ليس مهمًا، ليس مِن حقه أن يلغيني بجرّة قلم ممزقًا الأوراق التي بصمتُ عليها بوجودي، ليس مِن حقه، هكذا قالت فُتنَة وهي تدفع الدرج بكل قوتها وإرادتها، وتفتحه بعيدًا عن بدن المكتب، وتَخرج منه حيةً حرة منتصرة على المؤلف وعلى الظلم، تَخرج منه حيةً منتصرة، وتقرر أن المعركة بدأت بينها وبين الأستاذ المؤلف. 

تحدّق في الظلام حولها لا ترى شيئًا، تعتلي المكتب الذي احتُجِزت في أحد أدراجه، وتجلس على سطحه فرِحة تهز ساقيها زهوًا بنفسها؛ لأنها انتصرت أول انتصاراتها على نبيل، تلف برأسها تفحص الغرفةَ التي ينام المؤلف ويكتب ويعيش فيها، لا تعجبها الغرفة، ولا كل تفاصيلها، تحِسها مقبرة، وتحِسه فوق فراشه جسدًا مسجىً بلا حياة، لا تعجبها الغرفة، باردة خانقة جافة كأعواد الشوك، بلا حياة، بلا بهجة، بلا لوحات ولا نباتات ظل، ولا شمس تنيرها، ولا موسيقي تؤنس جدرانَها بالحياة .. 

تحدّق فُتنَة في جسده الملقى فوق الفراش المبعثر، وسط ظلامٍ خانق وهواءٍ راكد، وتتعجب من حاله، كيف سيقوَى على الكتابة والفن في تلك الحجرة الكئيبة الخانقة، إنها حجرة تدفع للحزن والأسى، وتثير الهمّ والغم، يستحيل أن تشعل وجدانَه وروحه بأي جمال، يستحيل أن تثمر أفكارًا برّاقة مبهجة. تَسخر منه، هذه المقبرة لن تَخرج مِن بين جدرانها أي فرحة .. 

ما تزال فُتنَة جالسة فوق المكتب تهز ساقيها على نغماتٍ لطيفه تدوي في أذُنيها تؤنسها وتهوّن وحدتها في تلك الحجرة الخانقة، تلف برأسها وتَسخر منه، نعم، حجرتك خانقة يا أستاذ، لا تفتح نوافذها، ولا تجدد هواءها الراكد، رائحة التراب والدخان تخنق الأنفاس والبهجة، ما تزال تتساءل، كيف ينتظر أن يبدع في هذا المكان الموحش؟ سخِرت فُتنَة من أفكارها وكأن المؤلف المثقف ودونما قصد مَنح لسانها بعض مفرداته الصعبة وكلماته الثقيلة، المكان قبر يا أستاذ، والقبور ليس فيها غير الجثث والعفاريت، همست خائفة تستعيذ بالله من شياطين الجن والأنس والإبداع والفن .. 

ما تزال فُتنَة جالسة علي المكتب، وما تزال تهز ساقيها، وما تزال النغمات المبهجة تتدفق في أذُنيها، وما تزال تحدّق في الكاتب مستغرقًا في نومِه على فراشه المبعثر، ضحكت بعد أن أدركت أنها صارت تعرفه جيدًا، رغم أنها لم تلتقِه إلا صباح اليوم وقت أن كَتب اسمها في منتصف الصفحة الأولى التي تصورها بداية روايتِه الجديدة، كيف صِرت أعرفه وأعرف حكايته ونحن لم نلتقِ من قبل؟ سؤالٌ صعب على فُتنَة العثور على إجابته، فتجاهلته وعاشت اللحظة كما فرض عليها أن تعيشها، تحدّق في نبيل والغرفة والظلام والهواء الراكد، همست بصوت ليس صوتها، ولا تعرف مِن أين أتى، "ولا عمره حيكتب حرف له معنى".. شرحت لنفسها، حياته من غير حياة، لا هو حي ولا هو ميت، ووقت أن يكتب يكتب أحرفًا باردة مثل تصوراته عن الحياة التي لا يعيشها، يكتب كذبًا مثلما يعيش كذبًا، هو لا يعرف حقيقة الحياة ولا شخصياتها، لذا تأتي كتابته موحشة رتيبة زائفة، لا تتفاعل ونفسَ وعقل القاريء، ولا يصدقها أحد, ولا حتى أنا! 

 ضحكت فُتنَة بصوتٍ أعلى، لذا لا أُعجِبه، ولا تعجِبه حياتي، أنا شخصية واقعية حقيقية، لكن الأستاذ لم يعد يعرف الواقع ولا يفهمه، صار غريبًا عنه، وغريبًا فيه، لا يرى الحياة إلا من غرفته الكئيبة التي يعيش فيها، يتنفس أتربة وهواء عطنًا، يحدّق في الظلام فيرى أشباحًا لا تشبه الناس في الشوارع، ولا الحدائق ولا المحلات المزدحمة، يحدّق في الظلام فلا يرى شيئًا حقيقيًا يصلح للكتابة عنه، فيختلق عوالم وهمية زائفة لا تشبِه الواقع ولن تشبهه، فتأتي كتبه ورواياته بلا روحٍ ولا معنى، يعزف عنه القراء والنقاد ويعطونه جميعًا ظهورهم! 

تبتسم فُتنَة وهي تحدّق في الأستاذ الغارق في النوم، أنا شخصية واقعية جدًا، شخصية حقيقية، شخصية جادة، موجعة ربما، لكن موجودة في الحياة 

"موجودة في الحياة اللي بجد، مش الحياة الوهمية اللي بيكتبوا عنها أي كلام فاضي ويقولوا واقعية، طبعا ما اعجبش الأستاذ المؤلف، زي ما كده الحياه مش عاجباه، الحياه اللي رفضها". نعم، رفضها واعتزلها واعتكف بعيدًا عنها معتقَلا في الحجرة الخانقة، فكيف سيكتب عن الحياة التي لم يعد لها إلا وجود زائف في رأسه؟ وها هو يصطنع حياة وهمية، ويملأ مئات الأوراق بتفاصيلها المزيفة، ويصفق فرحًا لأنه كتب رواية جديدة، لكنه حين ينشرها لا أحد يشتريها، ولا أحد يقرأها، وإذا جازف أحدهم وقبض على الكتاب سرعان ما يلقيه من يده نفورًا وكراهية، ببساطةٍ لا يصدق القراء ما يكتبه الأستاذ،  فذبلت كتبه فوق الرفوف لا أحد يشتريها، ولا أحد يقرأها، ولا أحد يكتب عنه، ويومًا بعد يوم، انتشر السمّ في جسده، والجدب في روحه، والعوالم الوهمية في أوراقه، فمات، ضحكت فُتنَة وهي تراقبه، الأستاذ نائم في الفراش، قلبه ينتفض من تحت جلبابه، كأن الدماء التي تتدفق في عروقه وشراينه توجعه، قلبه مثل الحجر لا ينبض ولا يعيش، فقط ينتفض ويدق دقاتٍ باردة مثل كلماته .... 

"يا حرام يا استاذ"! 
جالسةٌ على المكتب تهز ساقيها، وتتأمل نبيل النائم قتيلا على فراشه، غارقًا في سُباتٍ وتعب، تتأمل الغرفة وكل الأشياء المبعثرة على أرضها، ومفروشاتها القديمة، ملابسه، جواربه، أوراق صفراء، كتب بلا أغلفة، أكواب فارغة، أطباق تئن من بقايا الأكل العطن على حوافها، أحذية مُترِبة، تتأمل كل ما حولها، والمكتب القديم يئن تحت ثقل جسدها على سطحه، تفكر في اللحظة الغريبة التي تعيشها، فحين طوَى المؤلف صفحاتِه، واعتقلها في درج مكتبه، أدركت فُتنَة ببساطة أنها ستختفي من حياته ومشروع روايته، غضبت منه وتمردت عليه، لن تسمح له أن يقتلها ويمحوها من الوجود، قاومت، تشبتثت بالحياة رغمًا عنه وعن قلمه وعن إرادته، قاومت وتمردت، وفي النهاية أفلحت وخرجت من الدرج شخصيةً حقيقية من لحمٍ ودم، وليس مجرد فكرة علي صفحاتٍ ممزقة، وجلست فوق المكتب تراقبه وهو نائم، وتفكر فيما سيحدث في تلك اللحظة الغريبة من حياتها .. 

تراه على الفراش يتعذب، يئن ويصرخ، يتشاجر مع أشباح كوابيسِه، يحارب نفسه، أشفقت عليه مما يعانيه، تمنت لو تركت سطح المكتب وجلست بجواره على الفراش تهديء روعه، تمنت لو تمد يدها فوق رأسه، تعبث في شَعرِه تفك توتره، تمنت لو ربتت على ظهرِه، ودلّكت كتفيه المتشنجتين، تمنت لو هدهدت عضلاته المتيبسة، تمنت لو أيقظته وسألته، "غضبان مني ليه يا استاذ؟" 

لكنها تعلم أن كل هذا  مستحيل، ولن يحدث أبدًا، نعم هو مِن حقه أن يكتبها، وهي مِن حقها أن ترفض موتها بقصف قلمِه وطيّ الأوراق، هو يكتب عنها ويمزق أوراقه، هي تتمرد عليه وتبقَى حيةً في ذهنه وذاكرته وتلافيف مخه، هذا وذاك ممكن، لكنه يستحيل عليها لمسُه والاقتراب من جسده، هي تعلم أنها مجرد فراغ، أحرف مبعثرة ترسم معاني وتحكي حكايات، مجرد شخصيةٍ مرسومة على الورق، لا وجود لها إلا في عقله وأفكاره وصفحاته، تعلم أنها شخصية وهمية لا وجود لها، وهو إنسان من لحمٍ ودم، يستحيل أن يقتربا أو يتلامسا أو تتقاطع دوائرهما، هي تملك أن تفر من سطوته عليها وأن تعيش بقية حياتها بالطريقة التي تحِبها في العالم الوهمي الذي خُلِقت فيه، هو يملك أن ينساها ويمزق وجودها، ويختار لروايته بطلةً أخرى، لكنها تعرف أنها ابنة العالم الخيالي، وهو ابن العالم الواقعي، ولقاؤهما الحقيقي كان وما يزال مستحيلا ... 

ظلت فُتنَة تراقبه مِن فوق المكتب، نائم متوتر، يحلم غالبًا بما لا يحِبه ولا يعجِبه،، جسده ينتفض ويصارع ما لا تعرفه، أنفاسه سريعة، العرَق يتصبب من جبهته، تراقبه وتسأل نفسها، لماذا يتعذب كل هذا العذاب وهو نائم؟ لماذا لا يسمع موسيقى هادئة تلف روحه بحنانها، وتسحب طاقاتِ التوتر من جسده؟ لماذا لا يستيقظ رفضًا لذلك النوم المعذب، ويخرج من منزله الموحش، وغرفته الكئيبة، ويسير في الشوارع الخالية يستمتع بالهدوء والسكينة، وثرثات آخر الليل؟ لماذا لا يجلس في شرفته يحدّق في السماء البعيدة ونجومها الوهاجة؟ لماذا يتعذب كل هذا العذاب؟! عضلات جسده تتقلص ثم تتقلص، وصوت أسنانه التي يضغط عليها وصريرها المزعج يضايقها ويقشعر بدنها، "مالك يا استاذ؟" 

انتفض كأنه سيستيقظ، ثم هدأت أنفاسه وارتفع صوت شخيره وعاد للنوم، تبتسم فُتنَة، لا يعرف كيف ينام، رأسه مشغول متعَب، يحرمه من النوم العميق، ويستضيف كل الكوابيس المزعجة، ويزجها عنوةً في فراشه ولاوعيه الذي يعبّر عن نفسه بقوةٍ وعنفوان طوال نومه، تراقبه فُتنَة، متى سيستيقظ. متى سيمزق الأوراق التي كتبها عنها، فتتلاشى من الوجود؟ تراقبه بوجلٍ وغيظ، تفكر كيف تحمي نفسها من بطشِه ويأسه وحالته النفسية السيئة، تعدّ نفسها للمعركى الكبرى معه، لكنه ما يزال يتقلب في فراشه، ما يزال يحلم، وما تزال أشباح الكوابيس تحاصره وتنتقم منه، ولا يعرف كيف يفر منها! 

انتبهت فُتنَة لِما تقوله، وضحكت ضحكة خليعة كتمت صوتها العالي كي لا تفزعه أكثر مما هو فزِع، وكي لا توقظه قبل أن تستعد له ولمعركة بقائها في الحياة رغمًا عن أنفِه، إذا كانت أشباح الكوابيس تلاحقه، وأفكارها تطارده نائمًا ومستيقظًا لا يقوَى على الفرار منها، فما الذي سيفلح فيه وقت أن أحتل أنا رأسه وأحاصره بوجودي؟ كيف سيقوَى على التخلص مِني إذا كان عاجزًا عن التخلص منها؟ كادت تصرخ، هذا هو الحل الذي سيحافظ على حياتي ووجودي. حَسمت فُتنَة أمرها، قررت أن تحتل روح المؤلف وأحلامه، لا تغادره أبدًا، تحاصره بوجودها، تخايل رأسه وتشغلها، تسكن أفكاره ووقته، تبقَى حيةً في وجدانه رغمًا عن إرادته وقراره. ابتسمت ابتسامة أوسع، لن يقوَى على قتلي، ولن يفلح إنْ حاول، قررت أن تأخذ زمام المبادَرة، لن أبقَى قليلة الحيلة مكسورة الجناح أنتظِر قسوته وتمزيق الأوراق وبعثرة الوجود في الفراغ، سأدافع عن نفسي وعن وجودي، قررت فُتنَة ألا تترك له براحًا يتخلص منها فيه، ولا وقتًا يخطط فيه  لمحوها، لن تترك له فراغًا يحشوه بأفكارٍ سخيفة وشخصياتٍ أسخف، لن تغيب عن باله أبدًا، كل ثانية ودقيقة وساعة ستلاحقه، ستلازمه، ستبقَى معه تحكي له عن نفسها وحياتها، وقصصها الغريبة وتفاصيلها الصغيرة، ستجعله يُجن حتى لا يجد منها مهربًا ولا مفرًا إلا أن يكتب عنها ويخرجها من تلافيف عقله علي الأوراق بطلةً حيةً لروايةٍ جديدة ستكتبها معه، رواية جديدة ستكون الأجمل في كل أعماله، إمّا أن تكتب عني، وإمّا أن لن تكتب أبدًا، قررت فتنة بقسوةٍ وحسم أن تبقَى حيةً وموجودة، ليس فقط على الأوراق المطوية في الدرج، بل وإلى الأبد، بطلة رواية جديدة سيكتبها الأستاذ المؤلف. اتسعت ابتسامتها أكثر وأكثر وهي تراقبه على فراشه نائمًا يتعذب بكوابيسه، وهمست وكأن نبيل يسمعها فِعلاً، "ابقى ورّيني بقى حتعمل ايه يا استاذ؟ وحتتخلص مني ازاي؟ "وبدأت المعركة. 

google-playkhamsatmostaqltradent